فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً}
بيان لأحكام المشرفين إلى نقض العهد، وإثر بيان الناقضين له بالفعل. والخوف مستعار للعلم، أي: وإما تعلمن من قوم من المعاهدين نقض عهد فيما سيأتي، بما لاح لك منهم من دلائل الغدر، ومخايل الشرّ.
{فَانبِذْ إِلَيْهِمْ} أي: فاطرح إليهم عهدهم {عَلَى سَوَاء} أي: على طريق مستوٍ، قصد بأن تظهر لهم النقض، وتخبرهم إخبارًا مكشوفًا بأنك قد قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة، ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد، كي لا يكون من قبلك شائبة خيانة أصلًا، وإن كانت في مقابلة خيانتهم.
وقوله: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ} تعليل للأمر بالنبذ، إما باعتبار استلزامه النهي عن مناجزة القتال، لكونها خيانة، فيكون تحذيرًا له صلى الله عليه وسلم منها، وإما باعتبار استتباعه للقتال، فيكون حثًا له صلى الله عليه وسلم على النبذ أولًا، وعلى قتالهم ثانيًا، كأنه قيل: وإما تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم، ثم قاتلهم، إن الله لا يحب الخائنين، وهم من جملتهم، ولما علمت من حالهم. أفاده أبو السعود.

.تنبيه [على جواز معاهدة الكفار لمصلحة]:

دلت الآية على جواز معاهدة الكفار لمصلحة، ووجوب الوفاء بالعهد إذا لم يظهر منهم أمارة الخيانة، وتدل على إباحة نبذ العهد لمن توقع منهم غائلة مكر، وأن يعلمهم بذلك، لئلا يعيبوا علينا بنصب الحرب مع العهد.
روى أصحاب السنن أنه كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم ليقرب، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر! الله أكبر! وفاء لا غدر، فإذا هو عَمْرو بن عَبْسَةَ فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان بينه وبين قوم عهد، فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء» فرجع معاوية. وروى الإمام أحمد عن سلمان الفارسي أنه انتهى إلى حصن أو مدينة، فقال لأصحابه: دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم، فقال:
إنما كنت رجلًا منكم فهداني الله عز وجل للإسلام، فإن أسلمتم فلكم مالنا، وعليكم ما علينا، وإن أنتم أبيتم، فأدوا الجزية وأنتم صاغرون، فإن أبيتم نابذناكم على سوء، إن الله لا يحب الخائنين.
يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها.
هذا، وما ذكر من وجب إعلامهم، وإنما هو عند خوف الخيانة منهم وتوقعها، كما هو منطوق الآية.
وأما إذا ظهر نقض العهد ظهورًا مقطوعًا به فلا حاجة للإمام إلى نبذ العهد، بل يفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة، وهو في ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرعهم إلا وجيش رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرَ الظهران، وذلك على أربعة فراسخ من مكة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ}
عطف حكم عام لمعاملة جميع الأقوام الخائنين بعد الحكم الخاصّ بقوم معينين الذين تلوح منهم بوارق الغدر والخيانة، بحيث يبدو من أعمالهم ما فيه مخيلة بعدم وفائهم، فأمَره الله أن يردّ إليهم عهدهم، إذ لا فائدة فيه وإذ هم ينتفعون من مسالمة المؤمنين لهم، ولا ينتفع المؤمنون من مسالمتهم عند الحاجة.
والخوف توقع ضر من شيء، وهو الخوف الحقّ المحمود.
وأمّا تخيل الضرّ بدون أمارة فليس من الخوف وإنّما هو الهَوس والتوهّم.
وخوف الخيانة ظهور بوارقها.
وبلوغُ إضمارهم إيّاها، بما يتّصل بالمسلمين من أخبار أولئك وما يأتي به تجسّس أحوالهم كقوله تعالى: {فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} [البقرة: 229] وقوله: {فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة} [النساء: 3].
وقد تقدم عند قوله تعالى: {فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله} في سورة [البقرة: 229].
و{قوم} نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، أي كلّ قوم تخاف منهم خيانة.
والخيانة: ضد الأمانة، وهي هنا: نقض العهد، لأنّ الوفاء من الأمانة.
وقد تقدّم معنى الخيانة عند قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول} في هذه السورة [27].
والنبذ: الطرح وإلقاء الشيء.
وقد مضى عند قوله تعالى: {أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم} في سورة [البقرة: 100].
وإنّما رتّب نبذ العهد على خوف الخيانة، دون وقوعها، لأن شئون المعاملات السياسية والحربية تجري على حسب الظنون ومخائل الأحوال ولا ينتظر تحقّق وقوع الأمر المظنون لأنّه إذا تريَّث وُلاة الأمور في ذلك يكونون قد عرضوا الأمة للخطر، أو للتورّط في غفلة وضياع مصلحة، ولا تُدار سياسة الأمّة بما يدار به القضاء في الحقوق، لأنّ الحقوق إذا فاتت كانت بليّتها على واحد، وأمكن تدارك فائتها.
ومصالح الأمّة إذا فاتت تمكّن منها عدوّها، فلذلك علّق نبذ العهد بتوقّع خيانة المعاهدين من الأعداء، ومن أمثال العرب: خُذ اللص قبل يَأخُذَك، أي وقد علمت أنّه لص.
و{على سواء} صفة لمصدر محذوف، أي نبذًا على سواء، أو حال من الضمير في (انبذ) أي حالة كونك على سواء.
و{على} فيه للاستعلاء المجازي فهي تؤذن بأنّ مدخولها ممّا شأنه أن يعتلى عليه.
و{سواء} وصف بمعنى مستو، كما تقدم في قوله تعالى: {سواء عليهم أأنذرتهم} في سورة [البقرة: 6].
وإنما يصلح للاستواء مع معنى (على) الطريق، فعلم أن {سواء} وصف لموصوف محذوف يدلّ عليه وصفه، كما في قوله تعالى: {على ذات ألواح} [القمر: 13]، أي سفينة ذات ألواح.
وقوله النابغة:
كما لقيت ذاتُ الصَّفا من حليفها

أي الحية ذات الصفا.
ووصف النبذ أو النابذ بأنّه على سواء، تمثيل بحال الماشي على طريق جادّة لا التواء فيها، فلا مخاتلة لصاحبها كقوله تعالى: {فقل آذنتكم على سواء} [الأنبياء: 109] وهذا كما يقال، في ضدّه: هو يتبعُ بنيات الطريق، أي يراوغ ويخاتل.
والمعنى: فانبذ إليهم نبذًا واضحًا علنًا مكشوفًا.
ومفَعول (انبذ) محذوف بقرينة ما تقدّم من قوله: {ثم ينقضون عهدهم} [الأنفال: 56] وقوله: {وإما تخافنّ من قوم خيانة} أي انبذ عهدهم.
وعُدّي {انبِذْ} بـ(إلى) لتضمينه معنى اردد إليهم عهدهم، وقد فهم من ذلك لا يستمرّ على عهدهم لئلا يقع في كيدهم وأنّه لا يخونهم لأنّ أمره ينبذ عهده معهم ليستلزم أنّه لا يخونهم.
وجملة: {إن الله لا يحب الخائنين} تذييل لما اقتضته جملة: {وإما تخافن من قوم خيانة} إلخ تصريحًا واستلزامًا.
والمعنى: لأنّ الله لا يحبّهم، لأنّهم متّصفون بالخيانة فلا تستمرَّ على عهدهم فتكون معاهدًا لمن لا يحبّهم الله؛ ولأنّ الله لا يحبّ أن تكون أنت من الخائنين كما قال تعالى: {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانًا أثيما} في سورة [النساء: 107].
وذكر القرطبي عن النحّاس أنّه قال: هذا من معجز ما جاء في القرآن مما لا يوجد في الكلام مثله على اختصاره وكثرة معانيه.
قلت: وموقع (إنّ) فيه موقع التعليل للأمر برد عهدهم ونبذه إليهم فهي مغنية غناء فاء التفريع كما قال عبد القاهر، وتقدّم في غير موضع وهذا من نكت الإعجاز. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)}
وسبحانه وتعالى يبدأ هذه الآية بقوله: وإما ومثلها مثل فإما في الآية السابقة وقد تم التوضيح فيها، وهنا يتحدث عن الآخرين الذين لا يواجهون بالحرب، بل يدبرون لخيانة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونقول: هل هذه الخيانة مقطوع بها؟ أو أنت أخذت بالشبهات؟. الله سبحانه وتعالى هنا يفرق بعدالته في خلقه بين الخيانة المقطوع بها والخيانة غير المقطوع بها، فالخيانة المقطوع بها لها حكم، والخيانة المظنون بها لها حكم آخر. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال: 58].
أي بلغك أنهم سيخونونك، ماذا تفعل فيهم؟.
يقول الحق سبحانه وتعالى: {فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَاءٍ} [الأنفال: 58].
أي أنه ما دام هناك عهد والعهد ملك لطرفين، هذا عاهد وذاك عاهد، فإياك أن تأخذهم على غرة، بل انبذ إليهم، والنبذ هو الطرح والإبعاد، أي عليك أن تلغي العهد الذي بينك وبينهم، وتنهيه، وتبعده بكراهية. فساعة تخاف الخيانة أبعدهم، ولكن لا تحاربهم قبل أن تعلِمَهُم أنك قد ألغيت العهد بسبب واضح معلوم.
وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قبيلة خزاعة- كانت من حلفائه بعد صلح الحديبية- وكان الصلح يقضي ألا تهاجم قريش حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألا يهاجم رسول الله صلى الله عليه وسلم حلفاء قريش، وذهب بعض من أفراد قريش إلى قبيلة خزاعة وضربوهم، أي أن قريشًا خانت العهد، ونقضت الميثاق الذي كان بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بمعاونتها بني بكر في الاعتداء على خزاعة حلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فماذا فعل الناجون من خزاعة؟. أرسلوا عنهم عمرو بن سالم الخزاعي يصرخ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة وقال: إن قريشًا أخلفتك الوعد ونقضت ميثاقك، ولما حدث هذا لم يبق رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة سرًّا، بل أبلغ قريشًا بما حدث. وأنه طرح العهد الذي تم في صلح الحديبية بينه وبين قريش.
وعندما جاء أبو سفيان إلى المدينة ليحاول أن يبرر ما حدث. رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقابله.
إذن فإن وجدت من القوم الذين عاهدتهم بوادر خيانة فانبذ العهد، أما إن تأكدت أنهم خانوك فعلًا وحدثت الخيانة ففاجئهم بالحرب، تمامًا كما فَعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود بعد أن خانوه في غزوة الخندق ونقضوا العهد والميثاق.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} [الأنفال: 58].
فكأن الله تعالى بريء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بريء، والمسلمون أبرياء أن يخونوا حتى مع الذين كفروا؛ وهذه تؤكد لنا أن الإسلام جاء ليعدل الموازين في الأرض؛ ليس بالنسبة للمؤمنين به فقط بل بالنسبة للناس جميعًا.
ولذلك إن قرأت قول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله} [النساء: 105].
تلاحظ أن الآية لم تقل: بين المؤمنين.، ولكن قالت: {بَيْنَ الناس}؛ حتى لا تكون هناك تفرقة في العدل بين مؤمن وغير مؤمن، فغير المؤمن مخلوق لله، استدعاه الله إلى هذا الوجود، وسبحانه قد أعد له مكانه في هذا العالم؛ لذلك لابد أن تراعي العدل معه في كل الأمور ولا تظلمه بل تعطيه حقه؛ لأنك بذلك تكون أنت مددا من إمدادات الله. وقد كان هذا السلوك العادل الذي أمر به الله سببًا في دخول عدد كبير في الإسلام. ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105].
أي لا تناصر- يا محمد- الخائنين حتى وإن كانوا من أتباعك. وقد نزلت هذه الآية عندما سُرق درع من قتادة بن النعمان وهو من الأنصار، وحامت الشبهة حول رجل من الأنصار من بيت يقال لهم: بنو أبيرق. فجاء صاحب الدرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلما علم السارق بما حدث، وضع الدرع في جوال دقيق وأسرع وألقاه في بيت رجل يهودي اسمه زيد بن السمين. وقال لعشيرته: إني وضعت الدرع في منزل اليهودي زيد بن السمين، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله إن صاحبنا بريء. والذي سرق الدرع هو فلان اليهودي. وذهب الصحابة فوجدوا الدرع في جوال دقيق في بيت اليهودي. ولكن اليهودي أنكر أنه سرق الدرع وقال: لقد أتى به طعمة بن أبيرق ولم يلحظ طعمة أثناء نقل جوال الدقيق أن بالجوال ثقبًا صغيرًا، تسرب منه الدقيق ليصنع علامة على الأرض، وذلك من غفلته؛ لأن الله لابد أن يترك دليلًا للحق يهتدي به القاضي حتى لا يضيع الحق؛ فتتبع المسلمون علامة الدقيق حتى أوصلتهم إلى بيت طعمة بن أبيرق وأصبحت القضية أن السارق مسلم. ولكنه اتهم اليهودي كذبًا بالسرقة. وقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن حكمت لليهودي على المسلم يكون المسلمون في خسة ودناءة وحرج، وإذا بالوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعصمه من تعدي خواطره في هذه المسألة: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105].
أي لا تكن لأجل ولصالح الخائنين مدافعا عن أي واحد منهم ولو كان هذا الخائن مسلمًا. وهكذا كان عدل الإسلام في أن حكم الله تعالى لا ينصر مسلمًا على باطل ولا يظلم يهوديا، ألا يرون هذا الدين وما فيه من قوة الحق؟ ألا يدفعهم ذلك إلى أن يتجهوا إلى هذا الدين الإسلامي دين العدالة والإنصاف ليكونوا في أحضانه؟!
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَاءٍ} [الأنفال: 58].
أي قل لهم إني ألغيت هذا العهد الذي بيني وبينكم وأصبحت في حل منه.
وقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين}
يبين أنه سبحانه وتعالى لا يحب الخائنين حتى ولو كانوا من المنسوبين للإسلام. اهـ.